الأربعاء، 28 أكتوبر 2015

عروسة البحر / بقلم الكاتبه / دلال أحمد

عروسة البحر

الجزء اﻷول

عندما كنت صغيرة كانت أمي تجلس إلى جواري كل ليلة، تحتويني بحنانها وتضمني إلى صدرها في فراشي الصغير ،وإلى جواري ألعابي ودميتي المفضلة ،أنظر إلى عينيها فأسبح في عالم من السحر والخيال ،يأخذني صوتها الدافئ لعالم آخر ،تسدل عليه ستارة من شعرها المخملي الأسود الطويل ،أطالبها كل ليلة أن تحكي لي نفس الحكاية لأغفو مع صوتها الحنون ،وأحلم بأميري وبقصة عروسة البحر المسكينة ،كبرت ومازلت أحلم بنفس الحكاية أنتظر الأمير ولا أدري من أنا ،هل يعقل أن أكون عروسة البحر ؟ كل يوم أخرج إلى الشاطئ أجلس على رماله الفضية والشمس تسطع بنورها الذهبي ،وأنا وحدي أرسم قلبي على الرمال ،وﻻ أعرف أي أسم أكتب به فما زلت أنتظره وأنا أنظر للبحر منتظرة عواصفه تقلباته ثورته ،منتظرة سفينة تأتي من بعيد من عالم الخيال بها أمير لا يعلم أني أنتظره على شاطئ أحلامي ،تشتد العواصف وتتحطم السفينة على صخور الواقع ويسقط الأمير في البحر ،لا ؛لابد أن يعيش يكاد أن يغرق؛ لا أنه حلمي وحبي الذي أنتظره سنين عمري ،لابد أن أسرع إليه ﻷنقذه وأخرجه إلى شاطئ حبي وأحتويه داخل قلبي ،وحينما أخرجته لبر الأمان،جلست إلى جواره أنظر إليه أملأ عيناي برؤيته ،أخيرا وجدته وجدت حلمي ظللت سنين أبحث عنه داخل حكايات أمي ،لم أشعر إلا وأنا أقبّله لعلها تكون القبلة الأخيرة ،لكن هيهات فأنا عروسة البحر ولست أنسية، لا أستطيع الوصول إليه حتى وإن كان بين يدي، أحببته دون أن أراه وهو الآن أمامي ،لا أستطيع الاقتراب منه أكثر، فحلمي تمزق حين رأيته وأدركت أني بعيدة عنه رغم القرب ،سقطت دموعي على وجهه فبدأ يفيق ويفتح عيناه ،تلاقت عينانا معا وبنظرة حائرة سألني :من أنت ؟ لم أستطع الكلام ،تعثرت كلماتي فوق لساني ؛هربت ،وجدتني أتسلل دون كلمة واحدة ،أهرب نحو البحر لأرتمي فيه ، امتزجت دموعي بأمواجه لتخرج للشاطئ معلنة حبي له،أما هو فقد جن جنونه باحثا عني بكل مكان لا يعرف سوى عيناي ودموعي ،ونظرة الحب المتلصصة بهما ،أما أنا فلم يبارح وجهه مخيلتي وأصبح الحلم واقعا لا أدركه ،ولأول مرة أشعر بالعجز والوحدة تمنيت أن يكون لي قدمان كالبشر لأصل إليه، لكني محبوسة بهذا الذيل يقيد حركتي ،سبحت بكل مكان بالبحر سألت كل محارة وكل ناسك يسكنها عن حل، كيف الوصول إليه ؟ كيف الوصول إلى حبيبي ؟ تجمعت حولي صديقاتي الحوريات تبكين لحالي وقلن أذهبي للساحرات، هن الوحيدات اللاتي سيجدن لك حلا ،لم أتوانى لحظة سبحت لإحدى الساحرات أرجوها ،أقبّل الأرض من تحتها أن تجد لى حلا، قلت : أطلبي ما تشائي سأجمع لك جواهر البحرجميعها ،وأحضر لك اللألئ والأصداف ،لكي تعطيني قدمان كالبشر لأصل لحبيبي ،لكنها كانت خبيثة فطلبت مني ما يشعرني بالعجز من جديد ولكني وافقت ﻷنه السبيل الوحيد إليه حتى أراه وتلمس يدي يداه وأتمتع برؤية عيناه وأذوب عشقا إلى جواره وأقول له ...أقول له كيف سأقول له أحبك وهي ستأخذ صوتي ثمنا لقدماي ؟ لكن يكفي أن أراه ستتكلم عيناي وستصله دقات قلبي لتعلن له حبي ،لم أتردد في شرب الدواء الذي سيجعلني أتخلص من الذيل اللعين وأحصل على قدمين حتى وأن فقدت صوتي وكتمت بداخلي أناتي وكلمات الحب والشوق التي أدخرتها له سنين عمري ،أما هو فبات يجوب الشواطئ والشوارع والمدن بحثا عن تلك الفتاة الجميلة التي أنقذته ،كم كان يحلم بها تأخذه لعالم مسحور يتوه فيه وينسى من هو ،يعيش حلما على جزيرة يملكها لايوجد بها سواهما ،بها كوخا من سعف النخيل تحيط به الزهور من كل حانب وشجرة كبيرة حانية تظلل فروعها نوافذ الكوخ ،وأرجوحة صنعها بيده لحبيبته تجلس عليهامسدلة شعرها الأسود الطويل ،وعيناها تضئ ليله مع ضوء القمر الفضي ،ونظراتها الساحرة تسلبه عقله وتفقده اتزانه فلا يشعر بالموت أو الحياة ،فهما في عالم سرمدي بلا بداية أو نهاية ،وأمام كوخهما بحيرة يسبح فيها الإوز الأبيض وتنبت على حوافها ورود بيضاء ،تتناغم أصوات الطيور في السماء مع صوت خرير الماء، وحينها يجلس الأمير يغني لحبيبته بصوته العذب تشاركه البلابل والكروان في عزف لحن رقيق ترقص عليه كل الكائنات ،حتى الرياح تبدو رقيقة وهي تداعب ثوبها الأبيض الفضفاض ،سيأخذها ويجري بها على نفس الشاطئ الذي رأها فيه أول مرة ،سيلمس وجهها ،ويمرر يده بين خُصلات شعرها ويسمع صوتها حين تقول له أحبك ..هذه أمنياته وهو لا يعلم أنها لن تستطع قولها ،الآن من الممكن أن تسير إلى جواره لكنها لن تبوح له بما يجيش به قلبها لأنها وببساطة ضحت بصوتها حتى تصل إليه وكانت مستعدة أن تضحي بأكثر من ذلك رغبة في لقائه حتى لو لدقائق معدودة ،فحين لقائهما ستتوقف الأرض عن الدوران ،وسيتوقف الزمن وستكون الدقيقة أغلى من سنة ،ستحترق كل عبارات الحب التي لم تنطق لتكون لهيب شوق يجمع بينهما ،ستكون أقوى وأحدّ من شفرات السيوف لتقطع السكون ،وتمر خلال عالم صامت لتصل لقلبين احترقا شوقا ولهفة للقاء واحد، ومن بعده جنون أو موت، أو حياة سرمدية لم تعد تفرق النهايات لعلها بداية حياة جديدة تبدأ بلقاء يعج بضجيج الصمت وهمس العيون.

الجزء الثاني

لم يعد يدرك ما سبب أنشغاله بها إلى هذا الحد ...ألأنها أنقذت حياته؟ ؛ألأنها أخذته لشاطئ الأمان ؟ أم لأن عينيها سلبته عقله؟ ومازال يشعر بلهيب شفتيها على وجهه، أم إن قلبه مازال يدق تلك الدقات العنيفة المتلهفة للقائها ،أصبح نصف مجنون يكلم نفسه لماذا سُحرت بها؟لماذا هي ؟ ومن هي ؟ وسط كل تلك الحيرة يدخل عليه صديقه الوحيد ،فيبوح له بما أرّق عليه منامه وأفقده اتزانه ،وجعله يشعر بلوعةالحب ونار الشوق ،ما كان من صديقه إلا أن عرض عليه فكرة ؛أن يقيم حفلة كبيرة يدعو إليها كل بنات المملكة ليختار منهن واحدة تكون زوجته ...راقت له الفكرة وبدأيعد لها ،طلب من مساعديه أن يمشي كل منادٍ باتجاه ،ليعلن عن الحفل ورغبة الأمير في اختيار زوجة له ،جاب المنادون الشوارع والأزقة ؟،حتى شاطئ البحر وصلوا إليه ... وصلت الأصوات لقاع البحر ،خرجت الحوريات من خلف الصخور ،تبرق عيونهن مع ضوء الشمس فتتلألأ الأمواج ،وكأن نجوم السماء سقطت فوقها ،ومن بينهن عروسة البحر الحزينة جالسة تنظر لقدميها في حزن مخلوط بسعادة غير مكتملة، لكن صوت المنادي اخترق أذنيها ،أسرعت دقات قلبها ،اتسعت حدقتا عيناها ،صرخ الشوق بداخلها ،قررت أن تذهب إليه ؛لحلم عمرها فتناديه بلا صوت بلا كلمات ولاعبارات ،مجرد عبرات ستسقط من عينيها صريعة أمام عينيه، سيمسحها بيديه ويضمها لصدره ،ستذوب عشقا بين أحضانه ثم ترفع عينها لتنظر بعينيه ،ستكلمه عيناها ،ستصرخ أحبك ،أشتاق إليك ، احتويني لا تتركني ،لم يعد لي ملجأ سوى قلبك ،تركت عالمي لأجلك ،فقدت كل شيء لأجدك ،يكفيني أن أكون إلى جوارك ويتوقف الزمن ،فجأة صفعت موجة ثائرة وجنتيها فأفاقت من حلمها ،قررت الذهاب للحفل ،لم يكن من الصعب سرقة ملابس أحدى السيدات اللاتي يتركهن على الشاطئ للنزول للسباحة لترتديها ولكنها ملابس تبدو كبيرة عليها فجعلتها كمتسولة تمشي على استحياء ،حافية القدمين لكنها مع كل خطوة تحلم كيف سيقابلها أميرها ويأخذها لعالمه وتصير أميرة إلى جواره ،لكن ماذا لو لم تصل للقصر ؟ماذا لو لم تقابل الأمير؟ ااااااه من المجهول ستتحقق نبؤة الساحرة ،كلماتها التي حاولت عروسة البحر أن تنساها أو تتناساها لأن لديها يقين أن الأمير سيفرح لرؤياها ويأخذها لعالمه ،لكن الكلمات بدأت تنفذ من عقلها لأذنيها ،تدق بلا هوادة أبواب قلبها،إن لم أقابل الأمير ويأخذني لداخل القصر وأصير أميرة سأموت ،نعم سأموت ستنتهي حياتي وأنا أحترق حبا ولهفة ورغبة في البقاء إلى جواره ،بمجرد أن يختار فتاة غيري ،كيف لي أن أمنع الموت من الوصول إليّ إن لم أره ؟كيف وكلمات الساحرة سيف عالق كمقصلة هدفها الوحيد رقبتي ،تنتظرأمر السياف ليشق أوردتي ويسيل دمي، ويحتل الموت جسدي ويرفع رايته وأموت بلا ذكرى بلا أسم بلا عنوان ،وصلت إلى قصرالأمير ،ترفع رأسها لترى الزينات ؛الأعلام ،تسمع دقات الطبول وعزف الموسيقى ،يلف المكان ضحكات وأغاني تصدر من داخل القصر وهي مازالت واقفة أمام الباب والحراس يمنعونها بثوبها البالي الرث ،لكنها تحاول إخبارهم من هي ولكن لاتخرج الكلمات من شفتيها فالكلام جسر سقط منهارا تحت قدميها ،نظرت لقدميها ،تمنت أن تفقدهما ويعود لها صوتها لتخبر به العالم إنها الفتاة التي يبحث عنها الأمير ،لكن هيهات من صمت قاتل ولغة مبتورة وفحيح لايفهم ،تمر الثواني والدقائق والساعات وهي واقفة كمتسولة تطلب لحظة تقابل فيها الأمير ،دقت الساعة الثانية عشر، وجاء وقت اختيار الأمير لعروسه ،فقد الأمير الأمل في إيجاد فتاته وصدق أنه كان حلما ووهما في خياله فقط ،طلب من الملكة الأم اختيار عروسه بدلا منه وفعلا اختارت الأم أجمل الحاضرات ،بدأ الأمير الرقص معها وهو يحبس بداخله ألم ودموع وخيبة أمل ،وعلى خطوات رقصه مر على جسدها النحيل الذي تحولت فيه القدمين إلى ذيل من جديد وتهاوى الجسد على اﻷرض وسقطت عروسة البحر صريعة أمام قصر الأمير لم تره ولم يراها، لم يشعر بوجودها ولم تنعم بلقائه، وما كان من الحراس إلا أن حملوها وأعادوها للبحر فكان قبرها وتحولت لموجة من أمواجه اللاهثة نحو الشاطئ كبكاء الحيارى ،ترددت الحكاية على أسماع سكان المملكة ،وصل الخبر للأمير وحينها شعر بها، لم ينساها يوما بل ظل حبها بداخله لم يتزوج غيرها وكان ملاذه الوحيد الجلوس على الشاطئ في انتظارها ،لكنها لن تعود فالموتى لا يعودون ،لكن تبقى منهم ذكرى تطل بداخلنا حتى نموت حتى وأن كنا جميعا نعيش موتى بلا قبور .

النهاية

دﻻل أحمد الدﻻل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق