الثلاثاء، 27 أكتوبر 2015

أجنحة الملائكة / بقلم الأديب / محمد شعبان

أجنحة الملائكة

الأديب / محمد شعبان 

ومَنْ ذا الذي رأى ما رأيته ، وشعر بما شعرت به ، ثم لا يود المرور من هذا الشارع ذهابا وإيابا ، كانت الظروف وقتها لا تسمح لي بالمرور منه سوى مرتين يوميا في الذهاب والعودة إلى ومن المدرسة ، وباقي اليوم أقضيه في الدروس الخصوصية ، وَعَدْتُ أبي هذا العام أن أحصل على مجموع يؤهلني لكلية الهندسة لأساعده في إدارة مكتب الاستشارات الهندسية ، لم يكن هذا الشارع الوحيد المؤدي لمدرستي .. تعلمون ؟ .. هناك أكثر من شارع ، لكن هذا أقربها لقلبي ، أعَرّج أولا على زقاق ( صَبّور ) ولابد ، والذي يسلمني للشارع من منتصفه تقريبا ، ذلك وإلا اضطررت لولوجه من ناحية عكسية ، الأمر الذي يستغرق وقتا طويييييلا جدا .. لا بأس .. ألْجَأُ إلى الزقاق فقط في الصباح ، يجب أن أكون بالمدرسة قبل الطابور بخمس دقائق ، فأنا لا أحتمل مجرد نظرات اللوم من أحد ، فما بال التذنيب ، وصرخات المدير المتوعدة بالعقاب ، وعِصِيّ مُدَرِّسي التربية الرياضية التي تلاحق المتأخرين ؟! .. عاهدت نفسي طول فترة الدراسة ألا أقف موقفا كهذا أبدا ؛ لن أحتمله بحال ، بل ربما يغلبني البكاء حينها ، وأبدو أمام أقراني كبِنْتٍ مهيضة الجناح ، أعتقد أنني ربما يغمى عليّ لحظتها ، أما عند الظهيرة ، وأنا عائد من المدرسة تكون هناك بحبوحة من الوقت تسمح لي بالسير في الشارع حتى آخره دون اللجوء للزقاق ، ولأنني أسير وحدي لا تؤثر تلك المسافة الإضافية في الوقت ولا يشعر أحد في البيت بتأخر ، وقدماي طويلتان وخطاي متقاربة وسريعة ، ينبغي أن أكون بالبيت كما اعتدنا أتناول الغداء مع أبي وأمي ، ثم أنطلق سريعا للدروس ، كنت أستغل دائما قربي من الشارع لأي سبب من الأسباب ، فأتعمد المرور منه .. أعلم أنكم تتشوقون لمعرفة السبب (هههههه ) ، وينبغي أن يكون السبب وجيها وإلا اتهمتمومني بالتفاهة والسطحية ، ( إمممممم ) ... دعوني أولا أذكر لكم أمرا دائما ما كان أبي يذكّرني به ، كان يقول لي كل صباح ـ وأنا أُقَبّل يده ـ :ـ يا بني إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يفعل .. آخذ تلك الكلمات ملفوفةً باتسامةِ أمي الرائقة اللطيفة ، وأنطلق طيبَ النفسِ سعيدًا ، ولولا ذلك لاتخذت الزقاق عند عودتي أيضا ، لكنني دائما ما أحببت أن يطول شعورى بخفة الفراشةِ على أجنحةِ الملائكة ، ذلك كان شعوري حقا ... الشارع طويل والعمائر كثيرة ومتلاصقة وكذلك المحال التجارية ، هو أشبه بالسوق تزدحم فيه الأرجل بدْأً من ساعة الظهيرة وحتى ساعة متأخرة من الليل فضلا عن تلاحم الطلبة والطالبات أثناء عودتهم من مدارسهم ؛ لذا ما كنت أفوت الفرصة في تلاوة دعاء السوق الذي حفظته واعتدت تذكره بمجرد ولوج هذا الشارع ، هكذا أسأتنس به وأنا أحلق على أجنحة الملائكة ، ( ياااااه ) ما أجمله من شعور ! .. لكنّ الساعة الصباحية رااااائعة تجد الشارع حكرا على الطلبة والطالبات الغادين إلى مدارسهم ، زيُّ الطالبات الموحد والمجسِّم ( واااو ) يأسر الأنظار ، التنانير الرصاصية المشدودة من الخلف والقمصان البيضاء المشدودة من الأمام تجنن الألباب ... ( هااا) !! أرى الفكر قد غلبكم الآن في كوني مراهقا تافها يتخذ من ذهابه وإيابه وسيلة للتسكع و معاكسة البنات ، وربما يخادن إحداهن ، لكن بالتأكيد سيرفض البعض أن تغلبه تلك الفكرة مع شاب مثلي يستحضر أجنحة الملائكة ويتلو أذكار السوق و .... ، ( إمممممم ) .. لا عليكم جميعا ، ولا أخفيكم سرا ، تلك الشقراء الجميلة ذات القد الممشوق والعينين الساحرتين والتي تسكن بذات الشارع ، تملك سرًّا ما زال يشدني لها شدا حتى الآن ولا أرى في حياتي امرأة غيرها ، كانت تقع نظرتي عليها كل صباح وهي خارجة من عمارتها ترتدي الزي عينه ، هل تريدون أن تعرفوا كيف كان نظري يقع عليها؟ ، ( آاهااا ) ، فقط هكذا : رأسي إلى الأمام مرتفع ومستقيم مع ظهري ، أرمق بعيني رمقة واحدة جهة اليسار ، هذا فحسب ، حقيبة المدرسة على كتفها الشمال ،و تمسك تنورتها الطويلة ترفعها عن قدمها بينما تنزل درجات السلم الثلاث يكشف هذا شيئا قليلا من بياض قدمها وقسمتها ، ثم تخطو خطوة أو خطوتين نحو نهر الشارع ، يتزامن خروجها من العمارة مع مروري يوميا تزامنا عجيبا ربما تضبط عليه ساعتك ، لا ثانية قبل ولا ثانية بعد .. 

نعم نعم هذا هو أهم الأسباب ، وإلا فأجنحة الملائكة موجودة في كل الشوارع !! ، لكن لماذا هذه بالذات ؟ ، لا أدري ، عشرات البنات أصادفهن يوميًّا ، ولا أرمي بصري لأيّهن ، عجيبة حقا تلك الفتاة ، والأعجب أني لم أكن أراها أبدا عند العودة ، عندما أفترق عن صديقي ( بسام ) ، فيأخذ هو طريقه بينما أنحرف أنا ناحية الشارع ـ مع علمي الأكيد أنني لن أقابلها ولن أراها ، وكنت أبدا لا أطاوعه في إلحاحه بإكمال الطريق معه ، ( بسام ) شخصية ثرثارة ، ماهر في معاكسة البنات ، يعرف أكثر من واحدة ، يتصل بهن ويقابلهن و .. ، و .. ، تعرفون طبعا أمثاله ، حاولتُ أكثر من مرة أن أحدثه في أمر فتاتي ، لكن كنت أمتنع ، فكل من يعرفهن هذا الصعلوك الغبي ذواتُ تجارب وأعينُهن وقحة ، رقيعات متسيبات لا تتورع الواحدة منهن أن تظهر إعاجابها به هكذا عيانا بيانا جهارا أمام الجميع ، وتكيد الواحدة للأخرى لتفوز بخروجة واحدة معه ، أعرفهن ، فجميعهن كن معنا في درس ( الفيزياء ) الخصوصي ، كنا نجلس حوالي مائة طالب وطالبة في غرفة لا تتعدي عشرة أمتار ، يجلس ( بسام ) بجانبي يوزع الابتسامات والنظرات يُعلّق هذه ويتجاهل تلك ، لكن بالنهاية عندما سألني ذاتَ مرةٍ :ـ ألا أعرّفك بإحداهن ؟ ، أجبتُه على الفور :ـ أنا أعرف واحدة ، ضحك الصعلوك ساخرا مني بطريقة ما زلت أذكرها حتى الآن عندما عرَفَ أنَّ مجرد معرفتي بها هي رمقة عين يومية لا أكثر ، وفجأة تحوَّلتْ ( هيستيريا) ضحكه لـ ( هيستريا ) صمت ودهشة ، توقف فيها عن التنفس ، عندما وجدني أصف له جمالها ورشاقتها وأدبها ، وأين تسكن ؟ ، وكيف أنها مختلفة عن كل التافهات اللاتي يعرفهن ؟! ، قلت له عندما رأيته فاغرا فاه شاخصة عينه :ـ ماذا بك أيها الصعلوك ؟ ماذا أصابك ؟ ... :ـ لا لا ، لا شيء ، لكن يجب أن نتحدث ... :ـ نتحدث في ماذا ؟ ، أصابك مَسّ عندما علمتَ أنها لا تشبه تلك الرقيعات المتسيبات ؟ ... :ـ ( ههههههه ) الرقيعات ؟ ... :ـ ماذا ؟ هل ستعود لـ ( هيستريا ) الضحك ثانية .. اهدأ يا صعلوك ؟ ... :ـ لا ، أنا هادئ ، لكن ـ يا صديقي ـ لن تصدق عندما تعلم أن تلك التي تنبهر بها وبجمالها وأدبها من أهم الرقيعات اللاتي أعرفهنَّ أنا ... :ـ اخرس ، إياك أن تزيد كلمة واحدة عنها .. :ـ صدقني ، ولِمَ سأكذب عليك ؟ ... :ـ كيف عرفتَها ـ يا كذاب ـ ؟ ، لم أَرَكَ يومًا تكلمها ، أو تنظر إليها ، هي حتى لا ترفع عينيها عن الأرض، ثم إنها ليست معنا بالدروس الخصوصية ، أخبرني ، لا تجنني ... :ـ وهل أنت معها طول النهار والليل ، وتعرف عنها كل شيء ، صدقني هي مثلهن بل أفجر منهن ـ يا صديقي ـ ، بعضهن لا يظهرن ، يفعلن كل شيء في الخفاء ، تخاف من الفضائح ، يبدو أنك لا تصدقني ... :ـ نعم ، ولن أصدقك أبدا ... :ـ إذن سأطلب منك طلبا وحاول أن تفعله ، وسأثبت لك ... :ـ ماذا ؟ ... :ـ سأحدد موعدا تراني فيه معها وأنا أقابلها ، ما رأيك ؟ ، وهل تعرف ـ يا صديقي ـ أين سيكون المكان ؟ ... :ـ أين ؟ ... :ـ ( ههههههههه ) .... :ـ أين ؟ ، ومتى ؟ ، تكلم ... :ـ تحت الدرج في مدخل عمارتها ، (هااا ) هل ستَحْضُر ، أم لا ؟ ، تعال ، وانظر ، لن تخسر شيئا .... 

كانت صدمة كبيرة حقا عليّ ، لكنها لم تمنعي في اليوم التالي من المرور بالشارع .. شعور غريب عجيب أحسست به أثناء سيري ، ورغبة عارمة دفعتني بلا شعور أو وعي ، فوجدتني قابعا تحت الدرج في مدخل العمارة أثناء نزولها للمدرسة ، صدقا لا أدري كيف فعلت ذلك ولا أصدق ـ حتى الآن ـ أني فعلته ، لكنه حدث بالفعل ، كانت هناك قوة عجيبة تدفعني دفعا ، تحملني عن الأرض ، توقف عقلي عن التفكير إلا في محادثتها ... لعلكم تتشوقون الآن لمعرفة ما حدث تحت الدرج أليس كذلك ؟ ( هههههه ) ... كل خير .. ، لقد حدث ما جعلني أنطلق للمدرسة بسرعة عشرين حصانا، لكن للأسف ، ولأول مرة في حياتي الدراسية أتعرض لصراخ المدير ، وعصي مدرسي التربية الرياضية ، لكنني لم أنهنه كالبنت مهيضة الجناح ، ولم يُغمَ عليّ ، كان الشوق لمقابلة الصعلوك هو ما يملك كل حواسي ؛ لأخبره عن تلك الدقائق التي جمعتني بها في مدخل العمارة ، ولأشكره لأنه جرأني على تلك الخطوة التي لو عشت طول حياتي ما شجعت لها ، حكيت له كل ما أحبَّ حدوثه بالتفصيل ، وبكل دقة ، أظهر حينها إعاجبه بي ، وبما أخبرته من أسرار البنات ، بدى على وجهه أنه لأول مرة يسمعها ، بل تعجب كيف عرفت كل هذه الأشياء ؟ ، وأين ؟ .. لن أطيل عليكم .. حضر ( بسام ) في اليوم التالي للمدرسة مكسور الأنف واليد ، حالته تهلك من الضحك .. ذهب الصعلوك ، فقبع لتلك العفيفة التي لم تعرفه أبدا ، ولم يعرفها ، فنال ما يستحقه جزاء فريته وكذبه على يد رجال العمارة الذين ترصدوا له ، فنال ما يستحقه .. أصبحتْ ( أجنحة الملائكة ) ـ بعد تخرجنا ـ زوجتي وأم أولادي ، وأصبح لنا مكتب استشارات هندسية خاص بنا .. ـــــــــــــــتمت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق